الفصل الأخير
("محاصرون بين سندان الماضى ومطرقة المستقبل؛ ما نظنه حاضرًا يتحول فى ذات اللحظة إلى ماض، وما نتطلع إليه كمستقبل يتحول فى ذات اللحظة إلى حاضر، أين نحن بالضبط على خارطة الزمن")
سانتياجو، صيف 2018
أجلس الآن في المنزل الصومعة، باستثناء المكتب المستطيل كستنائى اللون المضاء بأباجورة تعمل باللمس يسبح المنزل في ظلام دامس، ترفرف فوق رأسى راياتى الممزقة، عناوين هزائمى وانكساراتى، وحيدًا، كل ما حولى يوحى بالموات؛ لا صوت، لا حركة، حتى الشارع هادئ أسمع فيه صوت مرور السيارات على فترات متباعدة، لا استخدم اللغة المنطوقة في هذا البيت إلا إذا تحدثت في الهاتف؛ عادة مع أمى، وأحيانًا مع إخوتى، قليلة هى مكالمات أبى؛ يتابع أخبارى من أمى.
يتملكني إحساس بأن هناك محطة قادمة بعد سانتياجو؟؛ لا أرى سوى احتمال واحد، أراه كحقيقة لا شك فيها؛ العودة إلى قريتنا، إما متقوقعًا فيها ما بقى من عمر، وإما موسدًا فيها بعد ما ينقضى العمر، إيه يا سانتياجو؛ أرجو أن تكونى آخر محطاتى أنت، وآخر فرصى أنت، فأى رهان سأقامر عليه فيك أيتها العزيزة سانتياجو.
يحاصرنى سانتياجو العجوز والبحر، أخشي عودتي إلى الشاطئ/قريتى وعلى رأسى إكليل هزيمتى وانكسارى؛ ماذا لو عدت أجر هيكل سمكة الماندرين العملاقة بعد ما نهشتها أسماك القرش؛ دليل عجزى وخيبتى، تلفظنى المدن واحدة تلو أخرى، فما عدت أعرف أى جواز سفر أحمل، ولا أى عنوان دائم أدون في أوراق هويتى.
من خلف زجاج النافذة بدا القمرُ بدرًا، آه لو ينزل لى لنتكلم معًا لبعض الوقت ثم يعود إلى مكانه؟؛ لن أسأله سوى سؤال واحد؛ ماذا ترى من عليائك؟، خبرنى ماذا تفعل ريم وجيهان ومايا الآن؟، من منهن تضحك؟، ومن منهن تبكى؟، ماذا يقلن؟، وفى أى شئ يفكرن؟، هل ما زلن يتذكرن صاحب القلب الـمُحطم؟، سلهن عن سيزيف وعن جبل التوبة الذى أصعده كل صباح حاملاً على كتفى صخرة ذنوبى، فإذا ما بلغت منتهاه سقطت منى ثانية إلى السفح، فأعاود الكرة في الصباح التالى.
تتشابه الأيام عندى، لا طقوس خاصة ليوم عن يوم؛ لا استثناءات، الأيام سواسية كأسنان المشط؛ لا تثير الأجازة الأسبوعية شغفًا من أى نوع؛ لا رحلات، لا سهرات، لا لقاءات، فقط بضع ساعات لشراء لوازم الأسبوع، عادة أتسوق يوم السبت بصحبة أليخاندرو أو فرناندو ونادرًا ما يكون لدى ارتباطات بعد العمل، أعود إلى البيت الصومعة، (لولا أنى أعرفك جيدا لظننت أنك أحد الرهبان)، داعبنى أليخاندرو ذات يوم، فعقبت قائلاً،
- لا تنخدع بالمظاهر
- كيف ؟، من يوم عرفتك وأنت على هذه الحال، زرتك في أوقات مختلفة وأنت على حالك؛ وحيدا لا أحد معك
- تكفينى نفسى !
- أشعر أن خلفك ماض طويل وعميق، لكنك لا تتحدث
- لا يوجد ما يستحق الذكر !
- تتبسط أكثر مما يجب ؟!
- بالعكس، إنها الحقيقة
- إذا أجبنى !
- عم ؟
- لم لم تتزوج حتى الآن ؟
- لم أعرف عنك النسيان !! .. أخبرتك بقصتى أكثر من مرة ..
ثم أكملت ضاحكًا،
- أخشى أن تكون أعراض آلزهايمر
فرد ضاحكا أيضًا،
- أريد ما بعد القصة
فأجبت بنفس الروح والوتيرة،
- لا شيء بعد انتهاء قصة
- أنت تهرب ؟
- لا أحد يستطيع الهرب، كلنا محاصرون يا عزيزى
- ...
نعم، محاصرون بين سندان الماضى ومطرقة المستقبل؛ ما نظنه حاضرًا يتحول في ذات اللحظة إلى ماض، وما نتطلع إليه كمستقبل يتحول في ذات اللحظة إلى حاضر، أين نحن بالضبط على خارطة الزمن. تتكرر دورة التاريخ في رتابة، ما حدث في القرية منذ أكثر من عشرين عاما تكرر بعدها في الاسكندرية، وما وقع في بيروت تكرر في سانتياجو، الأرواح واحدة والأجسادٍ مختلفة، وكذلك الأفعال، تختلف الملامح قليلاً لكن القصة هى ذات القصة.
أخيرًا، راجعت النسخة الأخيرة والنهائية من الرواية، غمست سبابتى في مداد قلبى ونسخت فيها ما وجدته مخطوطا على صفحات نفسى، كرة تنس تبادلناها خلال الأسابيع والأيام السابقة أنا والناشر، أخيرًا اتفقنا على الغلاف، آخر محطة خلاف بينى وبينه، كما تخيلته تماما، وجه فتاة جميلة رُسم بريشة غُمست في لون أسود حالك لامع، يسافر شعرها الناعم المسترسل خلفها دون كلل أو تعب، تمتد أناملها الطويلة المسحوبة ككفى مريم المجدلية في لوحة العشاء الأخير لدافنشى وفى عينيها أسى وعتاب وحيرة، أسى عذابات تحملتها وحدها في صمت وصبر، وعتاب من استغلوا ضعفها وما واسوها بكلمة، وحيرة لا تدرى في أى اتجاه تسير، قلبها أم عقلها، في أرضية الصورة زهور تتساند حزنًا، وفى أعلاها يُطل قمر تخنقه دموعه الساخنة.
أتأمل تفاصيل الصورة في هدوء، كثافة الحبر في قلب الخطوط حتى يوشك أن يضئ، خفوته شيئًا فشيئًا على الأجناب، من سميك إلى رفيع إلى أرفع حتى يكاد يتلاشى، استدارته في الأقواس حتى يوشك ألا يستقيم، واستقامته في الخطوط حتى يوشك ألا يستدير، تماس الخطوط دون أن يطغى أحدها على الآخر؛ لو أردت أن ترفع خطًا من طرفه لطاوعك من مبتدأه إلى خبره؛ من أول نقطة مس فيها اللوحة إلى آخر نقطة غادرها فيها، رشاقته متنقلاً من شكل لآخر، خفته فلا تشعر بوزنه ولا بحركته، سلس في قلب اللوحة، متعاقب في أدناها، متناثر في أجنابها، تُبهرك دقته في الزوايا والمنحنيات، نعومته في أعلى الصورة وخشونته في أدناها.
عينا فتاة الغلاف بئرا أحزان، عميقتان بلا قرار، عفويتان، لوزيتان، يتلألأن بضوء خفى ينبع من مكمن سرى، أسافر فيهما عكس الزمن، أرى قبائل تتصارع، ونساءً تسبى، وشعراء يتبارون بشعر الغزل والهجاء، أسمع عودًا شرقيًا، ونايًا حزينًا، ونشيجًا متقطعًا، وقمرًا معلقًا على بوابات مدن الحب الحزينة، تتدلى من ساقيه خلاخيل فضية ينعكس عليها ضوءه، أُبحر أبعد فأرى مُدنا تأكل عشاقها كى تتسلى بحكاياتهم في المساء، ترويها للصبايا فيتنهدن أسي، أبحر أعمق فأصل إلى زمن تتوقف فيه عقارب الساعة، وتتعطل فيه قوانين الجاذبية والحركة، أرى المستقبل حاضرا، فيعيد الماضى صياغة أحداثه.
أبحر أعمق وأعمق، يتحد الماضى والمستقبل في اللا زمن وأرى كل الوجوه التى قد عرفت، أتناول لوحة مفاتيح غسان، أشم رائحة خشب شجرة الزيتون العتيقة، أمسح المفاتيح الصدئة، يخرج غسان من إطار الصورة المعلقة على الجدار، الجاكت الأسمر اللون والقميص المقفول الأزرار حتى الرقبة وحطته البيضاء المثبتة بعقال أسود، أناوله مفاتيحه؛ يتأملها، يمسك بيد ابنه حنا، ينضم إليهما أليخاندرو وابنتيه، ويمضوا جميعًا صوب نابلس، كفٌ بكف يتجولون في حقول الزيتون والرمان ويعبق الجو برائحة زهور الليمون والبرتقال والكنافة النابلسية المتجمرة، وعلى ناصية القرية يضع المفتاح العتيق في الباب الثقيل، يردد المدى صدى تكات رتاج الباب في الآفاق مع خلفية تتناغم فيها دقات ناقوس كنيسة المهد ببيت لحم وأذان الفجر الصاعد إلى السماء من قلب قريتنا.
أسمع صوت خشخشة نعلى أبى في طريقه ليتوضئ لصلاة الفجر، يبسمل، ويحوقل، ويتعوذ، مفاتيحه الثلاث المعلقة بحنجرته لكل يوم جديد، تتناهى الأصوات إلى أمى في سريرها البسيط ذى القوائم المعدنية، تجلس ريثما تسمع خشخة نعليه خارجًا من دورة المياه، وبينما يفرد كُمى جلباب النوم يزيح باب الغرفة جانبًا ويلقى عليها تحية الصباح، ينكفئ الضوء الأصفر المعلق في زوايا الصالة على ظهره ويتسَحَب إلى بدايات الغرفة حتى عتبة السرير، يُحكم كوفيته حول عنقه، يُدخل ذراعيه في عباءته ويرفع طرفها فوق رأسه، فلا يبين منه شيء، ويمضى خارجًا صوب المسجد.
(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، يُسلم الحاج سعيد مُنهيًا صلاته من مكانه المعتاد، أول مقعد في الصف الثانى من مجموعة الكراسي المتراصة على يمين مدخل المسجد، تنتظم حلقة القرآن، يفتتح سيدانى المقرأة، يتعوذ، يبسمل، يقرأ من سورة البقرة، "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ".
ما أن انتهى ميشيل من صلاة باكر، حتى ارتدى ثيابه، وتدثر بمعطفه الجلدى، وأحكم الطاقية الصوف حول رأسه، نظر في هاتفه المحمول، ابتسم، وضعه في جيبه ونزل قاصدًا المسجد، من بعيد سمع جلبة أصوات الحاج سعيد تتداخل مع مناكفات سيدانى، ألقى السلام، وقال ضاحكًا وهو يفتح باب سيارة الحاج سعيد ويركب (بيكفى، كملوا خناق في السيارة، أبو فادى وشفيق ناطرينا ع الكورنيش، ياللا).
يقف شفيق ممسكًا كوب القهوة متكئًا على سور الكورنيش المعدنى، ناظرًا صوب المراكب البعيدة، وطيور النورس المحلقة في الآفاق تخترق بعينيها صفحة الماء، تتأرجح يمينًا ويسارا، تندفع كسهم في كبد الماء، تخرج وفى مناقيرها تتلوى أسماك شبوط صغيرة، يتابعها شفيق بعينيه ساهمًا، يضع أبو فادى كفه على كتف شفيق ويعقب (ربك ما بينسى حدا، تغدو خماصا وتعود بطانا).
ما إن دقت الساعة الثامنة صباحًا حتى دخلت تريزا شقتى ببيروت، مرتدية مريول زهرى اللون، أعدت لى فطورًا مع فنجان قهوة أتناوله مع جرائد الصباح، كعادتها بدأت من المطبخ وهى بكامل قوتها، وأخرجت من الثلاجة بعض الطعام المجمد لتطهيه حالما يفك، راجعت محتويات الثلاجة ونظفتها واتصلت بالبقالة وأملتها طلباتها، وعند العصر تناولت غدائها، وضعت أجرها في جيب قميصها، ومضت تحلم بأولادها يكبرون ويتعلمون في بلد بلا حروب ولا صراعات.
أدارت سانتانا محرك سيارتها الصغيرة، نادت على طفلتيها بصوت كله غضب جراء تأخرهما، يكسو وجهها جدية وصرامة، ريثما يأتيا تناولت بعض المناديل الورقية الملقاة في أرضية المقعد المجاور وكيس بطاطس محمرة فارغ، تمتمت "متى تهتمان بنظافة السيارة"، ركبت الكبرى إلى جوارها، والصغرى في الكرسى الخلفى، داست بنزين بشئ من عصبية، ومضت في طريقها إلى المدرسة تبرطم ببعض كلمات غير مفهومة بينما لم تتجرأ أى من البنتين على التفوه بكلمة وتبادلا نظرة ذات معنى وكتمتا ضحكتيهما.
نزلت ريم من السيارة الميكروباض العتيقة، لم تنس عادتنا الصباحية؛ التفاتة شبه عفوية مصحوبة بابتسامة خفيفة وهى تهم بإخراج ساقها من السيارة؛ حتى لا ينتبه أحد للغة الإشارة الخفية بيننا، في طريقى إلى مدرستى أتابع سيرها مع صويحباتها، تحتضن كل منهن حقيبتها المدرسية، عند الناصية القادمة سوف تنحرف يمينًا واتجه أنا يسارًا، وقبل دخولها الشارع بثلاث خطوات سوف ترسل ابتسامة أخرى، خفيفة وعفوية، أحافظ -وأنا أسير إلى جوار أخى الأكبر- بزاوية ميل، بينى وبينها، تسمح لى رؤية زاوية وجهها الصبوح والتقاط ابتسامتها العذبة، في العادة يوهمنى أخى أنه مشغول بالطريق والبحث عن رفاقه، فيتقدمنى بخطوة حينا ويتأخر خطوتين حينًا آخر، لكنى أعلم أنه يدرك ما بينى وبين ريم من إشارات وشفرات.
خرجت جيهان من المركز التجاري الكبير وحولها بناتها وزوجها، كان شعره مصبوغًا ولامعًا، يتهادي في ملابسه الفاخرة، أخرج علبة سجائره المستوردة والولاعة الـمُذهبة، أشعل سيجارة وقال في مشهد تمثيلى متقن (لم تعد المعروضات ترضي أذواقنا، ربما سافرنا أوربا لأسبوع أو أكثر نتسوق خلالهما)، أكدت جيهان والبنات صواب رأيه، جلسوا في أحد المقاهي وتناولوا مشروبات وكيك وحلويات، هاتفت جيهان والدتها، استل زوجها أحد بطاقات الإئتمان من الحافظة الجلدية المستطيلة ودفع الحساب، نظر محمود في عينيي وقال "كِش ملك"، ودعته واشتريت حقيبة جديدة استعدادًا للرحيل.
حزمت روزالينا حقائبها، ودعت أمها بقلب مفطور، تنساب دموعها كرزاز مطر في موسم شتاء لا يدخر وسعًا في رى خديها المتجمرتين علّْهما تبردا قليلا، طالعت صورة أخاها على الحائط والشريط الأسود المائل على زاويتها، مسحت أمها وجنتيها بكفيها، قبلت جبهتها، بينما يقف زوجها إلى جوارها مبتسمًا لغد يمسح آلامهما.
أمام مبنى الأمم المتحدة ببيروت؛ المطل على ساحة رياض الصلح، يقف ألفونسو يدخن سيجارته في ملل، تتصاعد دوامات الدخان أمام وجهه، حلقات متتابعة، طبقا للتعليمات، يحظر التدخين بالداخل، تبادل بعض الكلمات مع مدخنين آخرين، تطلع بعينين قلقتين إلى طوابق المبنى السبعة في أسى، في قلبه غصه منذ أخبره نائب المدير أنه لا يشك في براءته، لكن اعتبارات العمل تستدعى ألا يجمعهما؛ هو ومايا، مكتب واحد، لم يتأقلم على التغيير بعد، صباح اليوم قدم خطاب نقل إلى مقر المنظمة في القاهرة.
- ما كنت بسامح نفسى، ولا يسامحنى ألله، لو سافرت من دون هاى الخطوة
قالت مايا في نفسها وهى تخرج من أحد مكاتب مبنى الأمم المتحدة ببيروت.
كانت قد صعدت إلى الدور الثالث ووقفت أمام باب أحد المكاتب مترددة، استجمعت شجاعتها ودقت الباب المغلق، سمعت صوت رجالى ممطوط يدعوها قائلاً،
- Come in
فتحت الباب بهدوء ودخلت بخطى متثاقلة وإحساس بالذنب، ما إن رآها الجالس خلف المكتب حتى همس مستغربًا،
- مايا ؟!
هزت رأسها وتقدمت مادة ذراعها نحوه قائلة،
- جئت اعتذر ألفونسو .. أرجو أن تسامحنى
- هز رأسه وأطبق شفتيه ومد ذراعه مسلمًا، فمالت عليه وقبلت وجنتيه وانصرفت بعد ما تناولا معًا فنجانيّْ قهوة وتمنى كل منهما للآخر حياة سعيدة في المرحلة الجديدة.
أمام المدرسة الدولية المطلة على شارع اليمن بالزمالك، جلست غادة في سيارتها تنتظر خروج طفليها، لشد ما تغيرت، اكتسى وجهها بشئ من خبرة الأيام، غادرها قناع اللامبالاة، عقصت شعرها الناعم الكستنائى خلف رأسها، بدا وجهها المتألق أكثر جمالاً وبهاءً رغم جديته، ما إن لمحتهما يخرجان من البوابة يجران حقيبتيهما المدرسية، حتى أخرجت رأسها من النافذة وصاحت عليهما وهى تضغط آلة التنبيه ضغطات خفيفة متلاحقة، صاحت البنت جاذبة أخيها الأصغر من ذراعه "مامى .. مامى"، وانطلقا نحوها.
على الناصية المقابلة لمحل آلدورادو بشارع الحمرا، وقف أتوبيس المدرسة الفرنسية منتظرًا تومض أضواء كشافاته باللون الأصفر، في الوقت الذى تقدمت منه خادمة آسيوية بمريول وردى وبيدها السمراء طفلة عاجية اللون بشعر ذهبى، نزلت مايا من سيارتها بلباسها الرياضى ونادت "ساندرا. وينها بوسة مامى"، فاندفعت إليها الطفلة راكضة مرتمية في حضنها، دارت بها نصف دورة وحملتها إلى عتبة باب الأتوبيس، وقبلت وجنتيها، ثم تناولت شنطتها من الخادمة ووضعتها في الأتوبيس، حياها السائق مبتسمًا وقال،
- والله بتوحشونا ست مايا
فأجابته بوجه بشوش،
- إن شاء الله ما بنغيب عليكن، الأيام عم تمرق بسرعة
ثم أردفت،
- حبيت اسلم عليك ها الحين، لأن ع الرجعة بكون في المكتب، وبكره إن شاء الله بنسافر لأبو ظبى
- تروحوا وترجعوا بالسلامة، ناطرينكم لترجعوا
- الله يسلمك
ثم رفع كفه الأيمن حذاء جبهته وحياها مبتسمًا ومضى، فيما بقيت عيناها معلقتان بوجه ابنتها الملتصق بزجاج النافذة.
تفقد إيلى شقته الجديدة المطلة على شارع زايد الأول بأبو ظبى، استعدادًا لوصول مايا وساندرا، لم يكن هناك خيار ثان، إما أن يكونوا معًا وتفقد مايا وظيفتها، أو يظل كل منهما في بلد ويفقدها بلا رجعة، منذ التقى طبيبها الخاص آخر مرة منذ نحو أربعة أشهر، وهو يشعر بتأنيب ضمير أن طاوعها وتركها في بيروت مع ساندرا، جلس الطبيب معهما وتحدثا بمكاشفة أن شفائها معلق بالتصاقهم ببعضهم البعض، دمعت عيناها وتحدثت عن مخاوفها ألا تحصل على عمل جديد يعوض عملى الحالى، ربت إيلى على كتفها، وضمها إلى صدره، وطـمئنها معربًا عن ثقته فيما لديها من خبرات ومهارات متميزة تكفل لها فرص أخرى لا تقل تميزًا في أبو ظبى، حيث مجتمع دولى كبير من الأعمال، هزت رأسها ونظرت إلى الأرض وفى عينيها نظرة حائرة بين الموافقة والاستسلام.
داخل الناشر قلق تأخر صدور الرواية قبل انطلاق فعاليات معرض الكتاب بالشارقة، تتعاقب الأسابيع دون أن يلمس تقدمًا حقيقيًا؛ لعن المؤلف، بصوت مسموع، وكل من هُم على شاكلته؛ أولئك الذين يتصورون أنهم لا يستطيعون الكتابة إلا في حالة مِزاجية خاصة، تمنى لو استطاع جمعهم وعلى رأسهم مؤلف هذه الرواية وأحرقهم على مشهد من الجميع واعتزل بعدها مهنة النشر التى لم يجن منها سوى مصاحبة الأمراض والمعتوهين من الكُتاب، فما إن وجد في بريده الإليكترونى المسودة النهائية حتى أوشك أن يسجد لله حمدًا وشكرًا، ثم ما لبث أن عاود لعن المؤلف على خلفية مهاتراته مع المدير الفنى المسئول عن تصميم الغلاف، لم يملك منع نفسه في أحد هذه السجالات العقيمة أن يقول للمؤلف ساخرًا "طالما أنك تملك كل هذا الحس الفنى، لماذا لا تبهرنا بإبداعاتك وتصمم الغلاف بنفسك"، ومع هذا كان يرى في رأيه شيئًا من وجاهه تشجعه على الموافقة على بعض التعديلات، حتى جاء اليوم الذى أخبره فيه المؤلف رضاه عن الغلاف، زفر زفرة طويلة أتبعها بِقَسَم ألا ينشر له رواية أخرى أبدًا، أخذ نفسًا عميقًا وقال لنفسه "مازال هناك ثلاثة أسابيع على المعرض، رغم قصرها إلا أنها تكفى للإعلان عن الرواية والدعاية وتنظيم حفل توقيع يقام على هامش المعرض"، ثم تذكر عدم رغبته رؤية وجه المؤلف ثانية، فشطب حفل التوقيع من الترتيبات مكتفيًا بإرسال صندوق صغير يحتوى عددًا من النسخ إليه.
حوالى الساعة الخامسة مساء رن هاتفى، ظهر اسم فرناندو على الشاشة، كعادته عندما يأتى ليوصلنى إلى بيتى عائدًا من مكتبى، جمعت أوراقى، وضعت الحاسب في الحقيبة، علقتها على كتفى والتقطت زجاحة المياه ونزلت الدرج، فتحت باب السيارة مُلقيًا تحية المساء وجلست إلى جواره،
- بوناسيرا
- بوناسيرا سينيور
ثم انطلق يتحدث دون توقف، ترافق إسبانيته المكتظة بحرف الثاء، إشارات من يديه توحى تكبد عناء وضع حمل ثقيل في حقيبة السيارة، ولم أدرك أنه انتهى إلا بعد ما أخرج ورقة مطوية، بحثت فيها عن اسمى واسم المرسل، حانت منى التفاتة إلى مؤخرة السيارة لأطمأن على ما أرسلته ليحضره، هززت رأسى وشكرته دون أن أفهم مما قاله كلمة وإن وصلنى المعنى، بنهاية شارع داج همرشولد انحرفنا يسارًا، تجاوزنا الإشارة إلى أن توقفنا أمام محل لبيع الحلويات، اشتريت كعكتين، فتحت باب البيت ووضعت حقيبتى على الطاولة، تبعنى فرناندو حاملاً صندوق متوسط الحجم ثقيل الوزن من حقيبة السيارة، وضعه على الأرض حيث أشرت، ثم زفر وعاد إلى السيارة وأحضر الكعكتين، تناولت واحدة واهديته الثانية وتمنيت له أمسية سعيدة، فغادر محبورًا مسرورا.
عدت إلى وحدتى في شرنقتى الكبيرة، أشعر بالوحدة حتى وسط الزحام والأضواء والصخب، تأتينى الأصوات من بعيد، كأنما يفصلنى عما حولى سنوات ضوئية بالغة القدم، أتشبث بموضعى على جبل التوبة تنهشنى نار الخلاص من أخمص قدمى حتى قمة رأسى، جذع شجرة يتسابق سوس الزمن على نخره وتفريغه من محتواه ومعناه، تلهو الريح به في ليالى الصهد والغبار، أتطلع من أعلى قمة الجبل إلى السماء فيطالعنى وجه مايا بدرًا كامل الاستدارة.
"هذه أمسية لن تتكرر ثانية"، همست في نفسى، صنعت فنجانًا من القهوة فعبقت رائحتها النفاذة غرفة المعيشة، وضعت الصندوق الذى أحضره فرناندو على الطاولة؛ كان ثقيلا ومتينًا، لصقت على أجنابه الأربعة بطاقة تحمل اسمى وعنوانى " 105 شارع كاداكوس، ضاحية سانتا ماريا دى مانتيكويه، سانتياجو العاصمة"، أخرجت الكعكة من علبتها الكرتونية ووضعتها إلى جواره غارسًا في وسطها شمعة قانية الحمرة، أشعلتها وأطفأت أنوار غرفة المعيشة، تراقص ضوئها؛ ربما فرحًا، وربما ألمـًا، غنيت بصوت محشرج أغنية عيد الميلاد حتى إذا وصلت إلى مقطع "سنة حلوة يا مايا" أطفأت الشمعة وأضأت الغرفة، ثم فتحت الصندوق مستعينًا بمقص، ما إن رفعت الغطاء حتى انبعثت منه رائحة الورق والطباعة، رائحة الحياة للكُتَاب، لحظة ميلاد وتجسيد أفكارهم، يراها القراء ورقًا ويراه الكُتاب مشاعر وأحاسيس وشيئًا من لحم ودم.
بدت أجنحة غطاء الصندوق كفوفًا تحتضن ما بداخله من كتب رُصت بعناية، يعلو النسخ بطاقة صغيرة بلون سماوى كتب عليها بخط اليد "تهانئى بصدور الرواية، تحياتى وتقديرى وإلى عمل قادم إن شاء الله، توقيع الناشر"، تناولت نسخة، مسحتها بيدى كأنما أتحسس وجه مايا، الغلاف كما تمنيته ورأيته بعين خيالى، تناولت قطعة مثلثة الشكل من كعكة التفاح، وجلست على الكنبة، إلى جوار الأباجورة ورحت اتصفح الرواية، شردت بعيدًا، وتعجبت من توافق وصول النسخ في ذات يوم ميلادها، ما زالت لغة الكون تبهرنا بانسجامها، وما زال سانتياجو باوللو كويللو يتابع قراءة مفرداتها مذهولاً مبهورا، أهو ميلاد جديد لمايا، أم ميلاد جديد لنا معًا.
تحولت مايا إلى رواية، إلى حدوتة تحكيها البنات في ليالى القمر، ويخط العشاق منها لحبيباتهم كلماتهم المغسولة بماء المطر، ربما يكون ثمنًا فادحًا أن اخسر مدينة مقابل كل إمرأة عرفتها، لكنه ثمن زهيد جدًا مقارنة بشلالات الحب التى غمرتنى، وقواقع العشق التى اختبأت فيها، وتشرنقت فيها، فتحولت إلى فراشة حب، تترك في كل زاوية بصمة، وفى كل مكان ذكرى، حتى وإن أتى الفيروس الذى أصاب هاتفى منذ عدة أيام على كل ما فيه من بيانات وصور، ستظل صورهن مطبوعة على جدار القلب، وبوابات مدن الحب.
تمت
القاهرة ٣١ مايو ٢٠١٨